ترتيب سور القرآن الكريم وآياته كما هو اليوم بين أيدينا، عاد كما أنزل في ليلة القدر من بيت العزة في السماء السابعة إلى السماء الدنيا، لينزل بعد ذلك منجّماً، أي على دفعات، بالوحي على قلب سيدنا المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام، وبحسب الظروف والأحداث. فعَنِ ابْن عَبَّاس، قَالَ: (نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَكَانَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَكَانَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا نَزَلَ، فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً)[1]. وأتم النبي الكريم إعادة ترتيبه، بحسب ما راجعه به سيدنا جبريل عليه السلام، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه ، قَالَ: «كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً فِي رَمَضَانَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَرَضَهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ»[2] هل هناك ترابط وترتيب بين السور المتتابعات؟ من وجوه إعجاز القرآن الكريم أن سوره مرتبة ومتناسبة واحدة بعد الأخرى وهذه بعض الأمثلة بدءاً من سورة الفاتحة: الفاتحة: هي أم الكتاب والسبع المثاني، وقد وجد عدد من العلماء أن الفاتحة جاءت في مطلع الكتاب الكريم بمثابة المدخل لفهم كتاب الله وغايته، ومنها تتوضح الأهداف الأساسية من القرآن الكريم كله اختصاراً وقبل التوغل فيه. قال الأستاذ أبو الحسن الحرالّي في تفسير الفاتحة : (وكانت سورة الفاتحة أمّاً للقرآن، لأن القرآن جميعه مفصل من مجملها، فالآيات الثلاث الأول شاملة لكل معنى تضمنته الأسماء الحسنى والصفات العلى ، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصل من جوامعها ، والآيات الثلاث الأخر من قوله: { إهدنا } شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله والتحيز إلى رحمة الله والانقطاع دون ذلك). سورة البقرة: تبدأ من حيث انتهت الفاتحة عند إهدنا الصراط المستقيم فتكون الإجابة هداكم بهذا الكتاب: ذلك الكتاب لا ريب، فيه هدى للمتقين. ويشرح من هم المتقون وماذا يفعلون فيذكر صلاتهم وإنفاقهم وعقيدتهم وإيمانهم بالغيب ليؤكد لمن سأل الهدى أن يسلك طريق هؤلاء فقال: أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون، قبل أن ينتقل إلى تفصيل الشرح عن المغضوب عليهم والضالين… والموفق من تتبع سورة البقرة على اتساع مواضيعها ليجد الترابط والتناسب بين الآيات وبين المواضيع المتتالية، كما أسلفنا في العدد الماضي.
سورة آل عمران: تأتي بعد سورة البقرة وتبدأ بشرح ما انتهت إليه السورة السابقة جواباً على {كلٌ آمن بالله}. بالتعريف بوحدانية الله وتنوه ببطلان ألوهية من سواه ولذلك سميت بالزهراء التي يزهر بها قلب العبد الذي عرف التوحيد. كما تشدد هذه السورة على أولى فضائل الأخلاق وهي العلم والشجاعة، على أن تستكمل السورة التالية الفضيلتين المتبقيتين .
سورة النساء: تهدف هذه السورة إلى وضع ما سبقها من عقيدة موضع التطبيق عند الفرد وعند المجتمع. ومقصودها الأعظم الاجتماع على الدين بالاقتداء بالكتاب المبين، وما أحسن ابتداءها بعموم: {يا أيها الناس} بعد اختتام تلك بخصوص «يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا» الآية[3]. وتستعين بفضيلتي العدل والعفة للحض على التواصل والاجتماع. ولذلك سميت بسورة النساء للحاجة إلى التعاطف والتعاون والتراحم، ومن هنا نفهم لماذا اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة من التكاليف التي تنظم الحياة الاجتماعية والعلاقات.
سورة المائدة: بعد وضوح الأهداف العقائدية والأحكام التطبيقية في السور السابقة تشدد هذه السورة على الوفاء بالأحكام والعهود والمواثيق وتكشف الذين سبق أن أخلفوا بها وانتهكوها وتنتهي بخلاصة ما بدأت به لتحذر المخلين بالعهود فيقول تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115). وعلى هذا المنوال تتالى السور بترتيب منطقي يرتبط بعضها ببعض، ولا تخلو من إيراد الأمثلة والأدلة والعبر التي تشد القاريء والدارس، إلى أن نصل إلى قصار السور في أواخر الكتاب الكريم، لنجد أن كل واحدة منها مرتبطة أيضاً بالسورة التي سبقتها ومؤدية إلى السورة التي تلتها، ومن ذلك: سورة الزلزلة: قال الإمام أبو جعفر بن الزبير : وردت عقب سورة البينة ليبين بها حصول جزاء الفريقين ومآل الصنفين المذكورين في قوله : { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } – إلى قوله : { أولئك هم شر البرية } وقوله : { إن الذين آمنوا } – إلى آخر السورة . ولما كان حاصل ذلك افتراقهم على صنفين ولم يقع تعريف بتباين أحوالهم ، أعقب ذلك بمآل الصنفين واستيفاء جزاء الفريقين المجمل ذكرهم فقال تعالى : { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم،} إلى آخر سورة الزلزلة.
ثم سورة العاديات: تتابع هذه السورة الفصل بين الفريقين، فبعد أن قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا أو شراً ، يبيّن الله تعالى عمل كل منهما فإما مجاهد مضحٍ بماله وحياته وإما مكنز للمال بخيل مقتر.
ثم سورة القارعة: تجيب هذه السورة على ما قبلها ليعلم من جاهد وضحى بأن ما سيأتي جدير بالتضحية والشهادة وليعلم المتعلقون بالدنيا بأنهم أساؤوا التقدير ولم يتبصروا ولم يتحسبوا لليوم الموعود الذي سيقرع أسماعهم بهوله وفزعه.
ثم سورة التكاثر: تتمم هذه السورة ما بدأه الله تعالى في السورة السابقة ليكرر على أسماع الذين شغلهم تكاثر الأموال والأولاد في الدنيا ونعيمها عن طلب الآخرة حتى فاجأهم الموت وهم عنه منشغلون فبلغوا المقابر وفات الأوان.
ثم سورة العصر: تأتي هذه السورة استكمالاً لما سبق بأن الإنسان الذي لم يستغل وقته وعمره المحدود قد خسر خسراناً مبيناً بدلاً من توظيفه في الطاعة والصلاح والتقوى فاستثنى الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة…الداعين إلى الحق وإلى الصبر على الفقر والفقد.
ثم سورة الهمزة: هي تتمة لسورة العصر يعطي مثالاً على من لم يكتف بإضاعة الوقت بل بالتسبب بأذى الناس بدلاً من برهم والانفاق عليهم. وجزاؤه النار ولينفعه افتخاره بما جمع من أموال.
ثم سورة الفيل: وهي أيضاً تتمة لما سبق فتذكر بمثال من جمع المال وجند الرجال ، وطغى حتى بلغ به الأمر أن يسعى لهدم الكعبة والدين، فوجد الله له بالمرصاد حيث سلط عليه جنداً من جنوده أهلكوه وجيشه على مرأى من قريش بقوله{ ألم تر}.
ثم سورة قريش: فيقول لقريش التي رأت كيف أمّنها الله من الخوف وحماها من أبرهة وجيشه أن تؤوب إلى الله ولا تعبد سواه شكراً له واعترافاً بفضله.
ثم سورة الماعون: ويتابع القرآن بالطلب إلى قريش أن تقرن العبادة بالعمل الصالح فلا تقتدي بكبرائها الذين منعوا الخير عن الناس ولا بالمنافقين الذين أظهروا الإسلام وأضمروا الكفر. ثم سورة الكوثر: وكما زجر القرآن مناعي الخير وكسالى الصلاة أشار إلى أن الخير الحقيقي الكثير والخير كله اعطي للنبي ومن طلب الخير فليلحق بالنبي، ويقصد بالخير هنا خيرا الدنيا والآخرة. وسيحرم منه أعداؤه ومنتقدوه. فظهر بعد ذلك كرم النبي بلا حدود وقطع الله دابر الذين عادوه يوم بدر. ثم سورة الكافرون: كفاك يا محمد صبرا وقهرا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، قضي الأمر، وكلٌ قد كتب مصيره والمسلمون لم يعد ينقصهم العدد بل يكفيهم الصدق والإخلاص.
ثم سورة النصر: لما انقسم الناس إلى فريقين متخاصمين متباعدين وعد الله تعالى فريق المؤمنين بالنصر على الكافرين نصراً مبيناً مكيناً بالفتح، وباستقرار دولة الإسلام واكتمال شرع الله ودخول جماهير العرب فيه على أن يستعد النبي للرحيل بعد ان ادى الأمانة. وذلك بالاستغفار تتويجاً لعمره الذي قضاه بالعمل والعبادة وهو ما امر المسلم بفعله عقب كل صلاة.
ثم سورة المسد: هي تتمة لما سبق تنبيء بأن الدين قد انتصر وبأن دولة الإسلام قامت لا بالعشيرة ولا بالعصبية ولا غفران للمشركين ولو كانوا اولي قربى مثل عم النبي أبي لهب وزوجته أم جميل وأن القربى بعد اليوم هي للمتقين.
ثم سورة الإخلاص: والمعنى أن خلاصة القرآن كله توحيد الله عز وجل وتنزيهه عن الولد والشريك. وقد ذكِر الله فيها باسمه الأعظم وليس بصفة من صفاته. وكل شيء منه وإليه. ثم سورة الفلق: ولا يعيق العبد عن التوحيد إلا تأله النفس فاستعذ بالله من أذاها . وهي أشد على الانسان من سبعين شيطانا. فهي التي تتورط في السحر وفي الحسد والبغضاء وفي تجنيد الشر واهله وما يحاك في الظلام للضر والأذى.
وأخيراً سورة الناس: ثم استعذ بالله بعد ذلك من شياطين الجن والإنس حتى يصفو توحيدك كي لا تنسى الله وتأنس بالناس. ولذلك قبل أن تستفتح بالفاتحة من جديد إبدأ بالاستعاذة من الشيطان الرجيم العدو الأول للإنسان، تبعده وتصغره. ثم تستعين بالله في اول الفاتحة وتحمده على فضله بإعانته لك على التخلص من شره فيكون القرآن متصلاً متسلسلاً من الفاتحة إلى الفاتحة. وفي الخلاصة، يظهر لنا بعض مقاصد الله تعالى في كتابه الكريم، ولا يمكن معرفة ذلك بقراءة سطحية أو بقراءة ظرفية بين الحين والحين لهذا الكتاب العظيم، ومن تعمق فيه كوفيء برسوخ إيمانه وتوسع عقله واتساع مداركه. يقول الإمام البقاعي في تفسيره “نظم الدرر”: ( وبعلم التناسب يرسخ الإيمان في القلب، ويتمكن من اللب).
وفي الختام هل لا يزال هناك شك في أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من عمل إنس ولا جان؟ إنه رسالة الله الخالدة إلى عباده، فمن تلقاها أفلح وسَعِد، ومن أهملها خاب وخسر.