من الذي رتب سور القرآن بهذا الترتيب الموجود في المصاحف اليوم؟
بسم الله الرحمن الرحيم
لم يقع خلافٌ في أن ترتيب آيات القرآن كان بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذْ كان يقرأه على الصحابة ليل نهار، ولم يُسمع من أحدهم أنه خالفَ في ترتيب آيةٍ من الآيات.
لكن الخلاف بين العلماء وقع في ترتيب سور القرآن، ويمكن إجمال هذا الخلاف على قولين: هل هو توقيفي، أو اجتهادي؟ ولكل قول من القولين دليله وحجته، والذي رجَّحه أغلب أهل العلم أن ترتيب السور توقيفي، وهذه أدلة كل فريق أضعها بين يدي السائل.
الفريق الأول: ترتيب سور القرآن هو بتوقيفٍ من النبي صلّى الله عليه وسلّم: فحين جمعه أبو بكر ثمّ عثمان كان جمعه على هذا التّرتيب الّذي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه النّاس، وهو كما هو في مصاحف المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونقل القرطبي عن أبو بكر الأنباري: “أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فَرَّق على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جواباً لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام، عن رب العالمين، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغير الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول:” ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن”. وكان جبريل عليه السلام يقف على مكان الآيات”. بل يرى القائلون بتوقيف ترتيب السور أنّ اعتقاد كون القرآن متواتراً يقتضي أن يكون متواتراً حتى في ترتيب سوره. (1)واستدلوا بأدلة أخرى منها:
- ثبتَ في أحاديث عديدة ذِكرُ سور القرآن المتوالية حسب ترتيب المصحف، ولم يَرد خلاف ذلك إلاَّ في حديثٍ واحدٍ، وله دلالة لا تخالف كون الترتيب توقيفياً، ومن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ”. (2)
- ومنها أن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَى إِلَى فِرَاشِهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، وَقَرَأَ فِيهِمَا: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثُمَّ مَسْحَ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ “. (3)
- وقد ورد عن الصحابة ما يؤكد التوقيف في الترتيب أيضاً، فعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول، وهن من تلادي». (4) فذكر ابن مسعود السور نسقاً كما استقر ترتيبها. (5)
- واستدلوا بالدراية والعقل؛ فواقع ترتيب السور وطريقته لا يشك الناظر فيهما أنه توقيفيٌ مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن جَعْلَ ترتيب آل حاميم، وآل طاسين وِلاءً بخلاف المسبِّحات، والمبدوءات بـ (ألم) حيث لم تُجعل متتالية، بل فُصل بين سورها، وفُصل بين (طسم) الشعراء، و(طسم) القصص (بطس) النمل مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهادياً لذُكرت المسبِّحات وِلاءً، وأُخِّرت (طس) النمل عن (طسم) القصص.
- وكذلك عدم ترتيب السور على النُّزول، بحيث يُقدَّم المكي على المدني، يدل على أن الترتيب توقيفي. (6)
- قال الزركشي في “البرهان في علوم القرآن” وهو ممن يقول بالتوقيف في ترتيب السور: “وفسَّر بعضهم قوله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4] أي اقرأه على هذا الترتيب من غير تقديم ولا تأخير، وجاء النكير على من قرأه معكوساً، ولو حلف أن يقرأ القرآن على الترتيب لم يلزم إلاَّ على هذا الترتيب، ولو نزل القرآن جملةً واحدةً كما اقترحوا عليه لنزل على هذا الترتيب، وإنما تفرقت سوره وآياته نزولاً لحاجة الناس إليها حالةً بعد حالة، ولأنَّ فيه الناسخَ والمنسوخ، ولم يكن ليجتمعا نزولاً، وأبلغُ الحِكَمِ في تفرُّقِه ما قال سبحانه:﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106] وهذا أصل بني عليه مسائل كثيرة”. (7)
- أما مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ترتيب السور في أحد صلواته؛ حين قرآن البقرة ثم النساء ثم آل عمران؛ فلها وجهٌ آخر غير وجه توقيف الترتيب، وهو أنه دلَّ بعمله هذا على جواز مخالفة الترتيب أثناء القراءة في الصلاة وغيرها، وعلى هذا جرى عمل المسلمين، فتراهم في الكتاتيب يعلمون الأطفال من آخر القرآن. (8)
- وردوا على الحديث الذي رواه يزيد الفارسي عن ابن عباس، حين سأل عثمان بن عفان عن وضْعِهِ الأنفال بعد التوبة وعدم فصله بالبسملة بينهما…” (9) بأنه حديث ضعيف؛ لضعف يزيد الفارسي الذي ضعفه البخاري، ومن المستبعد على عثمان بن عفان وهو من أهل العلم بالقرآن أن يجهل مثل هذا الأمر. (10)
- وأخرج عمر بن شبَّة في تاريخ المدينة: ” قال سليمان بن بلال: سمعت ربيعة (هو ابن أبي عبد الرّحمن المعروف بربيعة الرّأي) يَسأل: لم قُدّمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكّة، وإنّما نزلتا بالمدينة؟ فقال: قدّمتا، وألّف القرآن على علم ممّن ألّفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا ممّا ينتهى إليه ولا يسأل عنه. (11)
الفريق الثاني: ترتيب سور القرآن كان باجتهاد الصحابة:
- أقوى ما يستدل به القائلون به، ما ورد عن ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ، فَيَقُولُ: ” ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا “، وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ، قَالَ: ” ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا “، وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، قَالَ: ” ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا “، قَالَ: وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: فَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهًا بِقِصَّتِهَا، فَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرًا: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ”. (12)
- واستدلوا على ذلك بأن المعروف عند أهل العلم أنّ مصاحف الصّحابة كانت تختلف في ترتيبها قبل أن يُجمع القرآن في عهد عثمان فلو كان هذا الترتيب توقيفياً منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجازوه ويختلفوا فيه ذلك الاختلاف الذي تصوِّرهُ لنا الروايات. فمصحف أبي بن كعب روي أنه كان مبدوءاً بالفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام. ومصحف ابن مسعود كان مبدوءاً بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران الخ على اختلاف شديد ومعلوم أن ابن مسعود ممّن شهد العرضة الأخيرة، ومع ذلك كان مصحفه من أشدّ مصاحف الصّحابة اختلافاً في ترتيب السّور. وهذا مصحف علي كان مرتباً على النزول فأوله اقرأ ثم المدثر ثم ق ثم المزمل ثم تبَّت، ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني. (13)
- وروى علقمة بن قيس النّخعيّ والأسود بن يزيد النّخعيّ، قالا: «أَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي أَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: أَهَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ؟ وَنَثْرًا كَنَثْرِ الدَّقَلِ؟ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ النَّظَائِرَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ النَّجْمَ وَالرَّحْمَنَ فِي رَكْعَةٍ، وَ: {اقْتَرَبَتِ} وَ {الْحَاقَّةُ} فِي رَكْعَةٍ، {وَالطُّورِ} {وَالذَّارِيَاتِ} فِي رَكْعَةٍ، وَ: {إِذَا وَقَعَتِ} وَ: نُونَ فِي رَكْعَةٍ، وَ: {سَأَلَ سَائِلٌ} {وَالنَّازِعَاتِ} فِي رَكْعَةٍ، وَ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} وَ: {عَبَسَ} فِي رَكْعَةٍ، وَالْمُدَّثِّرَ وَالْمُزَّمِّلَ فِي رَكْعَةٍ، وَ: {هَلْ أَتَى} وَ: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فِي رَكْعَةٍ، وَ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} وَالْمُرْسَلَاتِ فِي رَكْعَةٍ، وَالدُّخَانَ وَ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} فِي رَكْعَةٍ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ : هَذَا تَأْلِيفُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُ اللهُ (14) فهذا ابن مسعود وكان ممن شهدالعرضة الأخيرة للقرآن ومع ذلك فقد اختلف تأليف السّور في مصحفه عن ترتيب السور في المصحف اليوم.
- القول بأنّ تّرتيب السّور اجتهاديّ لا ينافي تواتر القرآن، فهو مقطوع بنقله تامّا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يؤثّر فيه تقديمٌ لسورة وتأخيرٌ لأخرى، كما أن اعتقاد ذلك التّرتيب ليس من لوازم الإيمان.
- وما جاء أنّ جبريل كان يعارض النّبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن ليس فيه أنّه كان على هذا التّرتيب، فقد تكون تلك المعارضة على ترتيب النّزول. (15)
ملحوظة:
أ- القائلون بالاجتهاد في ترتيب سور القرآن لا ينكرون أنّ بعض سور القرآن كان مرتّبا منذ عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كالسّبع الطّوال أو بعض سور المفصّل من سورة (ق) إلى آخر القرآن، لكن لم يَروهُ دليلاً يفيد القطع بالتّرتيب.
عن ابْن وهب أَنه سمع مَالِكًا يَقُول: ”إِنَّمَا أُلِّفَ الْقُرْآن على مَا كَانُوا يسمعُونَ من قِرَاءَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم” (16)
ب- ورأى بعضهم أنّ ترتيبه توقيفيّ إلّا (الأنفال) و (براءة)؛ لما جاء في حديث عثمان المتقدّم، فيكون هذا قولاً ثالثاً.
وأخيراً
قد راعى كثير من العلماء في بحوثهم التزام بيان أوجه التناسب بين كل سورة مع ما قبلها، ومنهم: الشيخ برهان الدين البقاعي (ت885هـ) في كتابه “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور” ، ومنهم: السيوطي (ت911هـ) في كتابه ” تناسق الدرر في تناسب السور” ، ومنهم: ابن الزبير الغرناطي (ت708هـ) في كتابه: ” البرهان في تناسب سور القرآن” حتى غدا علماً يحمل اسم علم المناسبات. كما ذكر عدد من العلماء كثيراً من الأدلة التي تؤكد إعجاز القرآن من خلال ترتيب سور القرآن ومن أهمهم: الشيخ محمد عبد الله دراز رحمه الله تعالى في كتابه القيم ” النبأ العظيم”.وأقول للسائل: إن وجود مثل هذا الخلاف في ترتيب سور القرآن ليس له كبير أثر، بل هو أمر طبيعيٌ لمن عايش التنزيل وفهم تلك المرحلة، بل مال كثير من العلماء إلى أنه خلافٌ لفظي، لكن المهم والمؤثر أن القرآن بحمد الله تعالى محفوظ من التحريف والتغير والتبديل؛ مصداق قول الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] .وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم