إنَّ الأمانةَ إحدى الصِّفاتِ الواجِبِ توافُرُها في كُلِّ رسولٍ بَعَثه اللهُ تعالى، وقد قال نبيُّ اللهِ نوحٌ عليه السَّلامُ لقَومِه: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء: 107] ، وقالها نبيُّ اللهِ هودٌ عليه السَّلامُ في الآيةِ [125]، ونبيُّ اللهِ صالحٌ عليه السَّلامُ في الآيةِ [143]، ونبيُّ اللهِ لُوطٌ عليه السَّلامُ في الآيةِ [162]، ونبيُّ اللهِ شُعَيبٌ عليه السَّلامُ في الآيةِ [178] وقالها نبيُّ اللهِ موسى عليه السَّلامُ كما في سورةِ الدُّخانِ الآيةِ [18]. وفي القرآنِ حكايةُ قِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ حينَ سقى لابنَتَيِ الرَّجُلِ الصَّالحِ؛ قال اللهُ تعالى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 22 - 26] ، أي: إنَّ خيرَ من تستأجِرُه القويُّ على عمَلِه، الأمينُ الذي لا يخونُ ما ائتُمِن عليه، قال ابنُ الجوزيِّ: (وإنَّما سَمَّتْه قويًّا؛ لرَفعِه الحَجَرَ على رأسِ البِئرِ. وقيل: لأنَّه استقى بدَلوٍ لا يُقِلُّها إلَّا العَدَدُ الكثيرُ من الرِّجالِ، وسمَّتْه أمينًا؛ لأنَّه أمَرَها أن تمشيَ خَلْفَه) . وقيل: الأمانةُ والقُوَّةُ أخِذَتا مِن سَقْيِه؛ فأمَّا القُوَّةُ فعُرِفَت مِن نَزعِه الدَّلْوَ، وأمَّا الأمانةُ فلكونِه يسقي سقيًا كاملًا، فيَدَعُ الغَنَمَ حتَّى تَرْوى، ولأنَّه لم يأخُذْ شيئًا منها .
وعن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَبدِ رَبِّ الكعبةِ قال: (دخَلْتُ المسجِدَ فإذا عبدُ اللهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ جالِسٌ في ظِلِّ الكعبةِ، والنَّاسُ مجتَمِعونَ عليه، فأتيتُهم فجَلَسْتُ إليه، فقال: كنَّا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فنزَلْنا منزِلًا؛ فمنَّا من يُصلِحُ خباءَه، ومنَّا من ينتَضِلُ ، ومنَّا من هو في جَشَرِه ، إذ نادى منادي رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الصَّلاةَ جامعةً، فاجتمَعْنا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّه لم يكُنْ نبيٌّ قبلي إلَّا كان حَقًّا عليه أن يَدُلَّ أمَّتَه على خيرِ ما يعلَمُه لهم، ويُنذِرَهم شَرَّ ما يعلَمُه لهم، وإنَّ أمَّتَكم هذه جُعِل عافيَتُها في أوَّلِها، وسيُصيبُ آخِرَها بلاءٌ وأمورٌ تُنكِرونَها، وتجيءُ فِتنةٌ فيُرَقِّقُ بعضُها بعضًا ، وتجيءُ الفتنةُ فيقولُ المؤمِنُ: هذه مُهلِكَتي! ثمَّ تنكَشِفُ، وتجيءُ الفتنةُ فيقولُ المؤمِنُ: هذه هذه! فمَن أحَبَّ أن يُزحزَحَ عن النَّارِ، ويُدخَلَ الجنَّةَ، فلْتَأتِه منيَّتُه وهو يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، ولْيَأتِ إلى النَّاسِ الذي يحِبُّ أن يُؤتى إليه، ومن بايَعَ إمامًا فأعطاه صَفقةَ يَدِه، وثَمَرةَ قَلْبِه، فلْيُطِعْه إن استطاع، فإن جاء آخَرُ ينازِعُه فاضرِبوا عُنُقَ الآخَرَ، فدَنَوتُ منه) ؛ ففي هذا الحديثِ بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الأنبياءَ قَبلَه قد أدَّوا أمانةَ التَّبليغِ لأُمَمِهم، وأنَّ كُلَّ نبيٍّ دَلَّ أمَّتَه على خيرِ ما يعلَمُه لهم، وأنذَرَهم شرَّ ما يعلَمُه لهم، ثمَّ أدى نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه الأمانةَ أيضًا، فبلَّغَنا ما هو خيرٌ لنا، وحذَّرَنا ما هو شرٌّ لنا، وبيَّن أنَّ هذه الأمَّةَ عافيتُها في أوَّلِها؛ لأنَّهم على الكتابِ والسُّنَّةِ، ثمَّ عَلَّمَنا أنَّ من أراد أن ينجوَ ويُزحزَحَ عن النَّارِ، ويُدخَلَ الجنَّةَ، فليستَمِرَّ على الإيمانِ حتَّى تأتيَه منيَّتُه وهو يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، وأن يعامِلَ النَّاسَ بما يحِبُّ أن يعامِلوه به، وأن يُتِمَّ عَهْدَه للإمامِ الذي بايعَه وعاهَده